مدونة عن خدمات الكتابة والتحرير
أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟
سيدة مسنة تجلس على حافة الرصيف بعد الانفجار |
صدق المفكر والكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، حين اختصر في رائعته "عائد الى حيفا" فكرة الوطن، وأنا منذ أيام أهدس بهذه الفكرة، أسأل نفسي ما هو الوطن؟ ولما لا أشعر بالانتماء لهذا المكان الذي وُلدت وترعرت فيه، كبرت وعرفت فيه قتل الأحلام والطموحات!
بتُّ أحسد أولئك الذين لا طموح لهم لا وأحلام، راضين بما هم عليه، لا يفكرون بأبعد من الغد، همومهم تقتصر على الطعام والشراب والنوم، لا يهمهم تحسين أوضاعهم المعيشية، أو نقلها إلى مستوى مختلف. هؤلاء ربما يختصرون الوطن برغيف الخبز، وضحكة أطفالهم. لا تهمهم الهجرة، هم حتى لا يكترثون بتغيير الحي الذي يقطنون فيه، هل هذا هو الوطن؟
الوطن هو ألاّ يحدث هذا كله!
هكذا يُجيب سعيد في رواية عائد إلى حيفا زوجته صفية، اختصر كل شيء باللا شيء! ألاّ يحدث كل هذا!
مرّ أسبوع على الحادث الماساوي الذي ضرب لبنان بأكمله وليس بيروت فحسب، بتُّ كلما مررتُ أمام نافذة أو وقفتُ أمام باب الشرفة أتلفت حولي، أعاين الزاوية الآمنة التي لا يصل الزجاج إليّ من خلالها!
أسبوع وأنا لا أقوى على الكتابة، ماذا أكتب؟ من أين أبدأ وكيف؟ رغم كم الانفجار داخلي لم أستطع أن أحط حرفًا واحدًا منذ أسبوع، رغم معايشتي لمعظم التفجيرات في لبنان منذ سنوات، لكن هذه المرة الأولى التي أشعر فيها ان الانفجار طالني بشكل شخصي، وكأن الانفجار حدث بين ثنايا روحي، زجاج المنازل والمحال تناثر بين اضلعي! رغم بُعدي الجغرافي عن مدينة بيروت، إلا أن صوت الانفجار القاسي وصل إلينا، عشنا حالة الذهول والتخبّط التي عاشها الجميع.
أكثر ما آلمني ولا زال يُنهك وجداني هم أولئك المفقودين الذين تُركوا لمصيرهم، أولئك الذين بقوا على قيد الحياة على مدى يومين او ثلاثة ولم يأتِ أحد لانقاذهم او انتشالهم من تحت الانقاض، تُرى كيف كانت أحوالهم خلال هذه الساعات؟ أية افكار راودتهم؟ كيف تأقلموا مع العتمة؟ هل كانوا يصلون ويناجون الله؟ هل حاولوا الصراخ علّ أحد يسمع أصواتهم؟ هل لعنوا الدنيا والبلد وبيروت أم حافظوا على رباطة جأشهم؟
لا أستطيع التفكير سوى بهؤلاء الذين كان يمكن ان يعودوا الى ذويهم ومحبيهم لو تم انقاذهم، حتى لو عادوا جرحى، المهم انهم على قيد الحياة. كيف عاش الشهداء آخر لحظاتهم؟ كيف أسلموا الروح؟
لا قدرانة فل ولا قدرانة أبقى
تخطر ع بالي جملة من اغنية للسيدة العظيمة فيروز "لا قدرانة فل ولا قدرانة ابقى"... هذا هو حالنا جميعًا، الدخول الى الوطن بات مستحيلًا، نحن نحتاج وطنًا قبل كل شيء، مكان يُشعرنا بالانتماء، بالأمان، بأننا نحيا، نتنفس على الأقل، وهذا المسمى وطن يستكثر علينا النفس!
ربما من هم قائمون على مقدرات الوطن مسؤولين عن هذه المآسي المتلاحقة، ربما أولئك الذين نصبّوهم مسؤولين، وهم أبعد ما يكون عن المسؤولية والشعور بالانتماء الوطني، لن أكتب عن السياسة والسياسيين، الفاجعة الآن تُلزمنا ان نكفكف دموعنا، ونلملم جراحاتنا، النفسية قبل الجسدية. الجسد يتعافى لكن جرح الروح أصعب، جرح الانتماء أشد وطأة.
من أين ندخل في الوطن؟
حتى الخروج من الوطن ليس ممكنًا، وكلنا نفكّر في الهجرة، في الهروب من القعر المكتوب علينا القفز فيه، أُقفلت كل السبل أمامنا، من بمقدوره اليوم الحصول على تذكرة طائرة؟ وما هي الوجهة الآمنة؟ كل الطرق مقطوعة، فيروس كورونا قضى على أرزاق الجميع، لن أدخل في الدهاليز، الذهن مشوّش، والأفكار مبعثرة، قدرنا أن نبحث عن طوق جديد للنجاة، أن ننهض من جديد، أن نُعيد الكرة مرة بعد مرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق